الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة في كتاب «الثقافة محنة لذيذة»: خميس الخياطي يكتب ضدّ النسيان وينتصر للثقافة

نشر في  27 أفريل 2016  (11:35)

 قد يكون الكاتب والصحفي خميس الخياطي من بين أواخر حبّات العنقود التونسي الذي تكوّن في صفوف نوادي السينما التونسية التي عرفت طفرتها في ستينات القرن الماضي والتي كانت بمثابة المدرسة أو الفضاء المعرفي الذي «تخرجت» منه أجيال من المثقفين..
في كتابه «الثقافة محنة لذيذة» والذي صدر مؤخرا عن دار نقوش عربية، استحضر الخياطي «شذرات من سيرة ذاتية» وهو التوصيف الأدبي الذي أعطاه المؤلف لمولوده الجديد..
انطلقت المسيرة من الكاف وتحديدا من قرية «القصور» حيث زاول الخياطي تعليمه الابتدائي قبل أن يلتحق بالمعهد الثانوي بالكاف ومنه الى مدرسة ترشيح المعلمين ثمّ جامعة 9 أفريل حيث درس علم الاجتماع..
سنة 1969 غادر الخياطي تونس وحط رحاله بفرنسا حيث درّس بالسربون واشتغل بصحيفة «اليوم السابع» وبإذاعة فرنسا الثقافية العمومية. ومن المضحكات المبكيات، أن هذا الاعلامي أجرى في أواخر الستينات اختبارا لكي يلتحق بإذاعة تونس الدولية فرفضته بتعلة أنّ صوته غير إذاعي، وما ان حلّ بفرنسا حتى تم انتدابه كناقد بالإذاعة الفرنسية الثقافية طيلة 20 سنة!
وفي سنة 96 عاد الخياطي الى أرض الوطن حيث واصل عمله في المجال الإعلامي كمراسل قار ليومية القدس العربي وغيرها من الصحف والبرامج التلفزية وأصدر 6 مؤلفات من أهمّها «تسريب الرمل» سنة 2006 والذي انتقد فيه الخطابات الظلامية التي تسربها الفضائيات الخليجية.

الأرض والجدة والخرافة

غير أنّ منحى السيرة الذاتية الذي شكّل العمود الفقري لكتاب «الثقافة محنة لذيذة» والذي وظبه الكاتب في 17 فصلا لم يكن سوى مطيّة للتطرق للمتن أو بالأحرى لمكونات الفسيفساء التي غذت قطعها الصغيرة مسيرة الكاتب ولعلّ أبرزها المضامين الوجدانية التي توفرت في فضائه الجغرافي فضلا عن الخرافة والكتب وروابطه الأسرية ومنها بالخصوص علاقته المميزة مع جدته والتي شكلت كلّها هويته المخصوصة وانتماءه الأولي كواحد من أبناء الشمال الغربي (أهدى خميس الخياطي الكتاب الى كلّ من طلّ من وراء البلايك).
فعن جدته، والتي يلقبها بالإمبراطورة، يقول الخياطي إنّها «قررت أن تبيع ما نسجت من بطانيات لإكمال ما يتطلبه مبيت المعهد الثانوي، فكان ذلك وتحررت من الليل والوحدة والبرد»، وأمّا الخرافة التي غذت مخياله منذ سنوات وعيه الأول، فيكتب عنها صفحات قائلا إنّ «للعالم القروي علاقة عضوية بالخرافة» مستحضرا خوف عمه من العبيثة وحذر عمته من النارود وهوس جدّه من «لمانلعامة» وامثلة عديدة أخرى كقصة الولي الصالح سيدي منصور الذي رمى حفنة من التراب في اتجاه بني هلال، فتحول التراب الى كرتوش فاضطروا للإنسحاب وباتت جهة القصور لذرية وسلالة سيدي منصور. هذا دون ان ننسى تأثير خصوصيات الفضاء الجغرافي والتاريخي لجهة القصور، هذه القرية ذات الأصول الرومانية والتي تجاورها بعض اهم المواقع الأثرية في البلاد.

فسيفساء الحياة

ومن «الفسيفساء الصغيرة» التي شكلت هويته الأولى، يتدرج الخياطي في كتابه الى فسيفساء الحياة الأوسع التي فاضت بزخم تراوح بين اللقاءات الاعلامية المتعددة وبما سماه «الفرص الضائعة»، بين من خذلوه ومن وضعوا فيه الثقة، وبين عوالم الكتب والأفلام والمثقفين الذين أهدوا للإنسانية ثقافة وجمالا وتحررا. وبهذه الطريقة، يبرز الكاتب انّ الهوية ليست بمفهوم جامد، بل هي منفتحة ومتعددة ومتغيرة بفعل ممارسة الحياة وبتراكماتها المعرفية.
«احتميت بالشعر لأنجو من قرار الآخرين» يكتب الخياطي في فصل «ألم يقولوا إنّه خير جليس!» ليكشف كلّ ما يمكن أن تمنحه الكلمات ويهديه الكتاب من مقوّمات لانفتاح الذات وتحصينها من العقليات الضيقة ومن قيود الحياة.
ومن العناوين التي استوقفتنا في القائمة الطويلة للكتب التي قرأها الخياطي وذكرها في كتابه، نذكر الكتب الثلاثة التي حملها معه الى فرنسا عندما قرّر الهجرة سنة 1969 وهي «مجتمع الفرجة» لغي دوبور و«أغاني مالدورور» للوتريامون و«رسالة في فقدان الأمل» لسورن كيركغارد. يردّ خميس الخياطي إذا الجميل للكتاب بقوة إذ هو «محنة، بها اللذة ومنها العلّة.. التي لا تطل حتما إلا على الحرية».

حتى لا ننسى دور نوادي السينما

وإلى جانب الكتاب الذي اتخذ منه الخياطي رفيق حياة، يسلط الكاتب الضوء على الدور الذي لعبته نوادي السينما التي يقول عنها إنّها «مدرسة مدنية تمارس فيها أسس المواطنة اعتمادا على السينما وما حولها من فنون وآداب وإيديولوجيا التفتح على العالم دون عقدة نقص أو شعور بالذنب من أي طرف كان» مذكرا بالعصر الذهبي للسينما في تونس عندما كان هناك 7 ملايين مشاهد في السنة وعندما لم تكن هناك قطيعة بين الجمهور الأفلام والنقاد وكان عدد قاعات السينما حينها في حدود 90 قاعة مقابل 15 قاعة اليوم..
ثمّ تتواصل المسيرة مع لقاءات مع كتاب كبار وسفرات الى القاهرة وبرلين وفلسطين والعراق وغيرها من مدن من أصقاع العالم، كلّها على وقع الثقافة والسينما والإعلام والتي شكلت المادة الأساسية في حياة خميس الخياطي، هذا المسافر الحر بين صفحات الأدب وشاشات السينما وقاعات التحرير.
استشراف المستقبل وكسر المسلمات
في «الثقافة محنة لذيذة»، قصّ علينا الخياطي شذرات من ذاكرته الشخصية ومن الهوية التونسية والعربية في حقبة تاريخية استثنائية تلت الاستقلال قبل أن يعم خطاب تسريب الرمل وما لحقه من ثورات قلبت المشهد العربي رأسا على عقب.. في «الثقافة محنة لذيذة»، كتب الخياطي ضدّ النسيان ومن أجل الذاكرة.. استنطق المكان والزمان ليبرز دور المثقف في اعطاء معنى للحياة، المثقف سواء كان كاتبا أو اعلاميا أو سينمائيا أو مفكرا أو أستاذا، ذلك الذي يساهم في «استشراف المستقبل وكسر المسلمات» وفق عبارة الكاتب.  
كتاب جدير بالقراءة ولو أنّنا تمنينا لو خاص بنا الكاتب أكثر في عالم الإعلام الثقافي الذي يمتلك المؤلف مختلف مفاتيحه وقد يكون ذلك موضوع كتاب قادم للخياطي.

شيراز بن مراد